أحمد محمد أحمد
المسئولون ، خاصة فى السودان لا يعرفون ادب الاستقالة،، تنهب البنوك وتفلس، يضرب الفساد بأطنابه، وبيانات المراجع العام تدوي في الآفاق، تحول "حلايب" الى أرض مصرية تحت سمع وبصر المسؤولين، ولا أحد يستقيل!!
الاستقالة سلوك حضاري أخلاقي رفيع، معيارها ليس الخطأ المباشر للرئيس أو الوزير أو المدير، ولكن روح المسؤولية عن أداء المرفق، اذا حدث تقصير، أو شبه أهمال، أو حتى حادث قدري، يستشعر هنا المسؤول الأول روح المسؤولية
ويستقيل، وكثيرون لبلادة حسهم وموت ضمائرهم لا يستشعرون هذه المسؤولية ويتغابون، فللسلطة بريق واغراء لا يقاوم. في الدول المتحضرة، يكفي تحطم طائرة أو افلاس بنك أو انهيار مؤسسة ليستقيل المسؤول، يتهم ابن رئيس الوزراء الاسرائيلي بالرشوة فيستقيل الرئيس، يتصادم قطاران في اليابان فيستقيل وزير المواصلات. العمل العام في الاسلام تكليف، وحمل ثقيل والذي يتكالب على الدنيا وملذاتها لا يصلح أن يكون حاكماً ومسؤولاً، أولاً لعجزه عن أن يكون قدوة وثانياً الجري وراء حطام الدنيا ضعف ووهن في الشخصية، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه: "لا أخشى عليكم الفرس والروم، ولا أخشى أن تعودوا بعدي كفاراً، ولكن أخشى أن تقبل عليكم الدنيا فتنافسوها ......"، وفي الآية الكريمة "واذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً". وفي قراءة "أمرنا" أي المترفين يكونوا "أمراء" بمعنى أن ترف وبذخ الحكام والمسؤولين فيه هلاك للأمة كلها. وقد وضع الرسول صلى الله عليه وسلم مبدأً راسخاً في العمل العام قال: "إننا لا نولي هذا الأمر من يطلبه" وقال مخاطباً أباذر حين سأله أن يوليه: "إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها". فالذي يطلب الوظيفة يراها مغنماً، وكسباً، وتسلطاً على العباد لا يمكن أن يفكر في اعتزال العمل مهما حدث، والمتكالب على الدنيا بطبعه جبان ، جشع ضعيف الايمان، مهما تظاهر بالتدين وبسمل، وحوقل، ونادى بالجهاد، ولبس العصابة الحمراء. ولنستعرض ثلاث استقالات، اثنتين منهما من صحابيين في عصر الراشدين والثالثة لشخصية رائعة معاصرة. كان عمرو بن العاص رضي الله عنه والياً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه على مصر وكان عمر يحاسبه حساباً عسيراً وشاطره ماله مرة، فلما جاء عثمان بن عفان رضي الله عنه تخوف من دهاء عمرو وحرصه، فبعث عبد الله بن أبي السرح والياً على خراج مصر وبيت مالها وكتب إلى عمرو: إني قد وليت ابن ابي السرح خراج مصر، ووكلتك بالجند والحرب، فغضب عمرو واعتزل العمل (استقال) وقال قولته المشهورة: (إني إذن كالذي يمسك البقرة من قرونها وغيري يحلبها).. وواضح أن سيدنا عثمان كان على حق في خوفه منه وتحجيمه ،، فعمرو كان يرى الولاية مغنماً وحلباً وتجلى ذلك في الفتنة الكبرى حين انضم عمرو الى معاوية، وخاض معه معارك صفين وزيراً ومستشاراً، وبعد مقتل علي رضي الله عنه قالها صريحة لمعاوية: "أترانا حاربنا علياً لفضل لنا عليه، إن هي إلا الدنيا نتكالب عليها، فلتقطعن لي قطعة من دنياك أو لأنابذك"، فقبل معاوية مرغماً وقال: "لك مصر طعمة ما حييت". والمثال الآخر عمير بن سعد الأوسي رضي الله عنه كان والياً للفاروق عمر على حمص وشمال الشام، ولما زار عمر بن الخطاب الشام بعد انحسار الطاعون لقيه أمراء الأجناد في الجابية فخاطبهم قائلاً: "إن معي فضول أموال فارفعوا إليّ أسماء فقرائكم لأدفعها اليهم"، وفوجئ الفاروق باسم عمير بن سعد على رأس قائمة المحتاجين، فصاح مندهشاً: "أليس عمير هذا هو والي أمير المؤمنين على حمص؟!!!" قالوا: نعم يا أمير المؤمنين، لكنه لا يأكل إلا وجبة إن وجدها، ولا يملك إلا قميصاً واحداً، ولا دابة له، فبكى عمر. ثم أن الفاروق أرسل اليه بعد عام: "أقدم وقدّم حساب ولايتك" فجاء المدينة ماشياً من حمص يحمل قصعة وعصا، فلما رثى عمر لحاله، قال يا أمير المؤمنين: جئتك أجر الدنيا من قرنيها هذه القصعة أشرب فيها ، وأتوضأ منها، وأغسل ثوبي، وعصاي أتقي بها وأتوكأ عليها وما الدنيا إلا تبع لما معي. فسأله عمر: أما جئتنا بمال؟! قال: أخذت فضول أموال الأغنياء فرددتها على الفقراء، ولو بقى شيء لأتيتك به. قال الفاروق: جددوا لعمير عهداً. قال: لن أعمل بعد الآن لك ولا لغيرك، فلما ألحّ عليه عمر ووسط له كبار الأنصار ليرجع إلى عمله، أبى إباءً تاماً وقال: "يا أمير المؤمنين لست كما تظن فيّ وأعرف عجزي وضعفي" . وخلال أكثر من عقدين من الزمان لم نر استقالة مسؤول إلا ما كان من النجم الأستاذ عصام الدين ميرغني معتمد وادي حلفا قبل سنتين وعصام الدين وجه مشرق، وهو رغم صغر سنه بـ"مكنة"رئيس جمهورية، وتقديمه لاستقالته مقياس حقيقي لمعدن الرجل معدن أصيل لا يصدأ وكان عظيماً وهو يركل السلطة والجاه حين تعارضت الأوامر مع قناعاته. شغل عصام الدين وظيفة معتمد محلية وادي حلفا لسنوات وهي أكبر محلية في السودان قبل تقسيمها عرفته عن قرب ولد قوي الشخصية ذكي، ونشط، متحدث لبق يألف ويؤلف بعيد كل البعد عن عنجهية وصلف الانقاذيين الذين ينظرون للآخر المعارض نظرة استعلاء ومن يعترض على سياستهم فهو شيوعي، وملحد، وطابور خامس، وخائن وعميل ـ الاتهامات المبتذلة، المعلبة اياها التي لم تعد تنطلي على أحد، والانقاذيون معظمهم من أسر فقيرة ومتوسطة وما كانوا متكبرين قديماً أيام الميثاق الاسلامي ولكن "التمكين" لعنها الله والمال الكثير غير الغالبية العظمى، تكبر، واستعلاء وطغيان وحقارة للناس وصدق الله تعالى "إن الانسان ليطغى إن رآه استغنى".. وبما أن الزعامة تكتسب بالحضور الاجتماعي، وخدمة الناس ومشاركتهم وجدانياً، وتبنى قضاياهم، فعصام الدين ميرغني زعيم قادم بقوة وعلى شيوخ الانقاذ أن يفسحوا المجال لأمثال عصام الدين ميرغني ليضخوا دماء جديدة في الحزب المثخن بالمشاكل بدلاً من التندر على زعماء الأحزاب العريقة بأنها زعامة متحجرة، متكلسة، قد بلغت من العمر عتياً. قدم عصام الدين استقالته بعد أحداث "كجبار" بين أهله المحس وحكومة الولاية مسنودة من وزير السدود القوي، وكان موقفه رائعاً فحكومة الولاية والمهندس أسامة عبد الله لم يشركوا أهل المنطقة بكل شفافية ووضوح ولم يحاولوا الاقناع بالحسنى بجدوى السد وفائدته المرجوة. وأهل المنطقة هم أعرق الناس حضارة في السودان ولهم تجربة سابقة في أهلهم مع السد العالي وما نتج عنه من كوارث وتشتيت للنوبيين ثم أنهم رأوا رأي العين "شيل التمساح" في المناصير، وما حدث لهم من شيل حال وبشتنة، وضرب واعتقال، فكان طبيعياً أن تكون ثمة هواجس من المواطنين، وبدل استعمال الحسنى وطول البال كان قبيحاً من حكومة الولاية الغاء عقول الناس وكالعادة علقت شماعتها الجاهزة بأن المعارضين هم شيوعيون ، ولا دينيون ومدفوعون من جهات أخرى، وسجل عصام الدين ميرغني باستقالته موقفاً غير مسبوق، والرجال مواقف والرجال معادن فيهم البلاتين والذهب والفضة، كما أن فيهم النحاس والصفيح والقصدير.
صحيفة أجراس الحرية - 28/1/2010
المسئولون ، خاصة فى السودان لا يعرفون ادب الاستقالة،، تنهب البنوك وتفلس، يضرب الفساد بأطنابه، وبيانات المراجع العام تدوي في الآفاق، تحول "حلايب" الى أرض مصرية تحت سمع وبصر المسؤولين، ولا أحد يستقيل!!
الاستقالة سلوك حضاري أخلاقي رفيع، معيارها ليس الخطأ المباشر للرئيس أو الوزير أو المدير، ولكن روح المسؤولية عن أداء المرفق، اذا حدث تقصير، أو شبه أهمال، أو حتى حادث قدري، يستشعر هنا المسؤول الأول روح المسؤولية
ويستقيل، وكثيرون لبلادة حسهم وموت ضمائرهم لا يستشعرون هذه المسؤولية ويتغابون، فللسلطة بريق واغراء لا يقاوم. في الدول المتحضرة، يكفي تحطم طائرة أو افلاس بنك أو انهيار مؤسسة ليستقيل المسؤول، يتهم ابن رئيس الوزراء الاسرائيلي بالرشوة فيستقيل الرئيس، يتصادم قطاران في اليابان فيستقيل وزير المواصلات. العمل العام في الاسلام تكليف، وحمل ثقيل والذي يتكالب على الدنيا وملذاتها لا يصلح أن يكون حاكماً ومسؤولاً، أولاً لعجزه عن أن يكون قدوة وثانياً الجري وراء حطام الدنيا ضعف ووهن في الشخصية، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه: "لا أخشى عليكم الفرس والروم، ولا أخشى أن تعودوا بعدي كفاراً، ولكن أخشى أن تقبل عليكم الدنيا فتنافسوها ......"، وفي الآية الكريمة "واذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً". وفي قراءة "أمرنا" أي المترفين يكونوا "أمراء" بمعنى أن ترف وبذخ الحكام والمسؤولين فيه هلاك للأمة كلها. وقد وضع الرسول صلى الله عليه وسلم مبدأً راسخاً في العمل العام قال: "إننا لا نولي هذا الأمر من يطلبه" وقال مخاطباً أباذر حين سأله أن يوليه: "إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها". فالذي يطلب الوظيفة يراها مغنماً، وكسباً، وتسلطاً على العباد لا يمكن أن يفكر في اعتزال العمل مهما حدث، والمتكالب على الدنيا بطبعه جبان ، جشع ضعيف الايمان، مهما تظاهر بالتدين وبسمل، وحوقل، ونادى بالجهاد، ولبس العصابة الحمراء. ولنستعرض ثلاث استقالات، اثنتين منهما من صحابيين في عصر الراشدين والثالثة لشخصية رائعة معاصرة. كان عمرو بن العاص رضي الله عنه والياً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه على مصر وكان عمر يحاسبه حساباً عسيراً وشاطره ماله مرة، فلما جاء عثمان بن عفان رضي الله عنه تخوف من دهاء عمرو وحرصه، فبعث عبد الله بن أبي السرح والياً على خراج مصر وبيت مالها وكتب إلى عمرو: إني قد وليت ابن ابي السرح خراج مصر، ووكلتك بالجند والحرب، فغضب عمرو واعتزل العمل (استقال) وقال قولته المشهورة: (إني إذن كالذي يمسك البقرة من قرونها وغيري يحلبها).. وواضح أن سيدنا عثمان كان على حق في خوفه منه وتحجيمه ،، فعمرو كان يرى الولاية مغنماً وحلباً وتجلى ذلك في الفتنة الكبرى حين انضم عمرو الى معاوية، وخاض معه معارك صفين وزيراً ومستشاراً، وبعد مقتل علي رضي الله عنه قالها صريحة لمعاوية: "أترانا حاربنا علياً لفضل لنا عليه، إن هي إلا الدنيا نتكالب عليها، فلتقطعن لي قطعة من دنياك أو لأنابذك"، فقبل معاوية مرغماً وقال: "لك مصر طعمة ما حييت". والمثال الآخر عمير بن سعد الأوسي رضي الله عنه كان والياً للفاروق عمر على حمص وشمال الشام، ولما زار عمر بن الخطاب الشام بعد انحسار الطاعون لقيه أمراء الأجناد في الجابية فخاطبهم قائلاً: "إن معي فضول أموال فارفعوا إليّ أسماء فقرائكم لأدفعها اليهم"، وفوجئ الفاروق باسم عمير بن سعد على رأس قائمة المحتاجين، فصاح مندهشاً: "أليس عمير هذا هو والي أمير المؤمنين على حمص؟!!!" قالوا: نعم يا أمير المؤمنين، لكنه لا يأكل إلا وجبة إن وجدها، ولا يملك إلا قميصاً واحداً، ولا دابة له، فبكى عمر. ثم أن الفاروق أرسل اليه بعد عام: "أقدم وقدّم حساب ولايتك" فجاء المدينة ماشياً من حمص يحمل قصعة وعصا، فلما رثى عمر لحاله، قال يا أمير المؤمنين: جئتك أجر الدنيا من قرنيها هذه القصعة أشرب فيها ، وأتوضأ منها، وأغسل ثوبي، وعصاي أتقي بها وأتوكأ عليها وما الدنيا إلا تبع لما معي. فسأله عمر: أما جئتنا بمال؟! قال: أخذت فضول أموال الأغنياء فرددتها على الفقراء، ولو بقى شيء لأتيتك به. قال الفاروق: جددوا لعمير عهداً. قال: لن أعمل بعد الآن لك ولا لغيرك، فلما ألحّ عليه عمر ووسط له كبار الأنصار ليرجع إلى عمله، أبى إباءً تاماً وقال: "يا أمير المؤمنين لست كما تظن فيّ وأعرف عجزي وضعفي" . وخلال أكثر من عقدين من الزمان لم نر استقالة مسؤول إلا ما كان من النجم الأستاذ عصام الدين ميرغني معتمد وادي حلفا قبل سنتين وعصام الدين وجه مشرق، وهو رغم صغر سنه بـ"مكنة"رئيس جمهورية، وتقديمه لاستقالته مقياس حقيقي لمعدن الرجل معدن أصيل لا يصدأ وكان عظيماً وهو يركل السلطة والجاه حين تعارضت الأوامر مع قناعاته. شغل عصام الدين وظيفة معتمد محلية وادي حلفا لسنوات وهي أكبر محلية في السودان قبل تقسيمها عرفته عن قرب ولد قوي الشخصية ذكي، ونشط، متحدث لبق يألف ويؤلف بعيد كل البعد عن عنجهية وصلف الانقاذيين الذين ينظرون للآخر المعارض نظرة استعلاء ومن يعترض على سياستهم فهو شيوعي، وملحد، وطابور خامس، وخائن وعميل ـ الاتهامات المبتذلة، المعلبة اياها التي لم تعد تنطلي على أحد، والانقاذيون معظمهم من أسر فقيرة ومتوسطة وما كانوا متكبرين قديماً أيام الميثاق الاسلامي ولكن "التمكين" لعنها الله والمال الكثير غير الغالبية العظمى، تكبر، واستعلاء وطغيان وحقارة للناس وصدق الله تعالى "إن الانسان ليطغى إن رآه استغنى".. وبما أن الزعامة تكتسب بالحضور الاجتماعي، وخدمة الناس ومشاركتهم وجدانياً، وتبنى قضاياهم، فعصام الدين ميرغني زعيم قادم بقوة وعلى شيوخ الانقاذ أن يفسحوا المجال لأمثال عصام الدين ميرغني ليضخوا دماء جديدة في الحزب المثخن بالمشاكل بدلاً من التندر على زعماء الأحزاب العريقة بأنها زعامة متحجرة، متكلسة، قد بلغت من العمر عتياً. قدم عصام الدين استقالته بعد أحداث "كجبار" بين أهله المحس وحكومة الولاية مسنودة من وزير السدود القوي، وكان موقفه رائعاً فحكومة الولاية والمهندس أسامة عبد الله لم يشركوا أهل المنطقة بكل شفافية ووضوح ولم يحاولوا الاقناع بالحسنى بجدوى السد وفائدته المرجوة. وأهل المنطقة هم أعرق الناس حضارة في السودان ولهم تجربة سابقة في أهلهم مع السد العالي وما نتج عنه من كوارث وتشتيت للنوبيين ثم أنهم رأوا رأي العين "شيل التمساح" في المناصير، وما حدث لهم من شيل حال وبشتنة، وضرب واعتقال، فكان طبيعياً أن تكون ثمة هواجس من المواطنين، وبدل استعمال الحسنى وطول البال كان قبيحاً من حكومة الولاية الغاء عقول الناس وكالعادة علقت شماعتها الجاهزة بأن المعارضين هم شيوعيون ، ولا دينيون ومدفوعون من جهات أخرى، وسجل عصام الدين ميرغني باستقالته موقفاً غير مسبوق، والرجال مواقف والرجال معادن فيهم البلاتين والذهب والفضة، كما أن فيهم النحاس والصفيح والقصدير.
صحيفة أجراس الحرية - 28/1/2010