أولو بقية
عثمان أبوزيد
كأنني كنت واقعاً تحت تأثير التفكير المغناطيسي في ذلك اليوم 28 يونيو الماضي. فقد ظلت تنتابني هواجس التقلبات والتحديات التي أحاطت بالوطن ، فكيف لهذا الوطن المثخن بالجراح أن يصمد ويبقى؟
لكنني وجدت في كتاب الله ما أعاد إليّ اليقين والطمأنينة. في أقل من 24 ساعة ، طرقت مسمعي هذه الآية الكريمة من أواخر سورة هود : "فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم ، واتبع الذين ظلموا ما أُترفوا فيه وكانوا مجرمين" [هود:116].
في المرّة الأولى عندما أخذت إحدى المجلات التي توضع على مكتبي كل شهر دون أن أكلف نفسي عناءً في فتح مظروفها، ولا أدري ما الذي دفعني إليها ذلك الصباح!
كتب أحدهم عن ضمان البقاء وشروط النماء، ومما جاء في حديثه : ليس سهلاً أن يقوم المجتمع بلوازم ضمان البقاء ، ذلك أنه من دلالات البقاء استمرار الحياة ومواصلة البناء ، والحفاظ على المكتسبات والمنجزات ، وصيانتها وحسن استغلالها. فبقدر ما تكبر الحصيلة تكبر المسؤولية ، وبقدر ما يتسع الإنجاز تتسع دائرة الصيانة والرعاية والحماية. هذا هو كنه البقاء وحقيقة استمرار العطاء.
ثم أتى الكاتب بالآية شارحاً أن القرآن الكريم يربط بقوة بين البقية المتمكنة من البقاء وبين سلطانها على محاربة الفساد وعوامل التآكل والانهيار. سرّ البقية الباقية هو في بقائها على الحق من أجل الإصلاح والصلاح ، والتخلي عن مواصلة البقاء يجد أصله في اتباع الترف وينتهي بممارسة الإجرام! وفي كل ذلك عناصر إبادة محققة وفناء أكيد.
في مساء اليوم نفسه جلسنا في حلقة التلاوة الأسبوعية ، وتوقف شيخنا عند هذه الآية دون سواها، مركزاً على "أولو بقية " ، وختم بالدعاء أن يجعلنا الله من هذه البقية التي تنهي عن الفساد في الأرض. لم يفسر الشيخ إلا تلك الآية مع أننا قرأنا جزءاً كاملاً من القرآن.
وما تزال ترن في مسمعي الكلمات التي قرأتها صباحاً : "إن توفير النماء جزء من استمرار البقاء ...
كل مشروع خير ، صوت يصدح بالحق ، شاهد بالحق ، ناصر للحق . ولذا أرى أن ينكب عملنا على تشجيع أصوات الحق ، مهما علت وتعددت أصوات الباطل. فالتنمية حق ، والتربية حق ، والتواصل حق ، ومشاريع ومنجزات الخير قائمة بالحق خادمة للحق".
أما المرة الثالثة ، فكانت في المسجد الحرام. وقفت أصلي صلاة الفجر عند تلك المشربيات قبالة ميزاب الرحمة ، وارتفع صوت الإمام يتلو "فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ...الآية" ، ثم تأتي الآية التالية : "وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون".
سنّة ماضية في الخلق ، كلما تمسكوا بالصلاح والإصلاح ، ابتعدوا عن أسباب الهلاك. وعندما يدخل فيهم الفساد والإجرام تخلّوا عن دواعي البقاء والنماء.
وتمضي المقالة : "هناك منجزات أفنت فيها الأجيال الماضية والحاضرة عصارة جهدها وثرواتها ، ينبغي أن تبقى. وجامعات ومؤسسات ومعاهد ومدارس ، ينبغي أن يدوم أثرها ، ومقررات وبرامج ومناهج أثبتت فاعليتها ؛ ينبغي الحفاظ عليها. ومساجد ومراكز ، أسست لذكر الله ورفع كلمة الله والدعوة لدينه ينبغي أن تبقى وتستمر. لأن كل ذلك وغيره من منابر الحق وأصوات الخير ، إذا لم يحافظ عليها أهلها عطل فعلها وأزيل وجودها أو خضعت لتغيرات في جوهرها لتصبح شيئاً آخر على غير صلة بالحق".
إذا كثر الفساد في الأرض وانتشر الخبث في الناس، فإنه ينذر بعاقبة وخيمة...
سألت إحدى نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أو نهلك يا رسول الله وفينا الصالحون؟ قال: نعم. إذا كثر الخبث }، فالخبث إذا كثر في أمة من الأمم فإنه نذير بأن تهلك هذه الأمة كما ورد ذلك في القرآن؛ إما بخسف أو بمسخ أو بريح أو بعاصفة أو بفيضان أو بزلزال أو ببركان أو بطاعون أو بمرض أو بغير ذلك من جند الله التي لا يحصيها إلا رب العالمين.
إن أهل الخير الذين ينهون عما يقع في مجتمعاتهم من الشرور والمعاصي ، هم قلة قليلة، وفي بقاء هذا النوع الشريف منجاة للجميع من الفتنة ومن الهلاك العاجل.
قال صاحب التحرير والتنوير: المراد الإهلاك العاجل الحال بهم في غير وقت حلول أمثاله، دون الإهلاك على جميع الأمم، وهو فناء أمة وقيام أخرى في مدد معلومة حسب سنن معلومة.
وفي مقابل البقية من أهل الخير ، بقية أخرى؛ الذين ظلموا ، اتبعوا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين؛ مجرمين على أنفسهم، ومجتمعهم، وأسرهم، وديارهم التي كانوا يسكنون فيها. فإن العذاب لما حلَّ، حَلَّ بالجميع: قُلِبت الديار، وتضرر المجتمع من تلك المعاصي التي كانوا يفعلونها.
هذا نداء لكل فرد من أولي بقيتنا أن يجدّد العزم، ويصحَح النية، فإن السفر طويل والزاد قليل:
لا أستزيدك فيما فيك من كرمٍ * أنا الذي نام إن نبّهت يقظانا!
من صحيفه الراي العام
عثمان أبوزيد
كأنني كنت واقعاً تحت تأثير التفكير المغناطيسي في ذلك اليوم 28 يونيو الماضي. فقد ظلت تنتابني هواجس التقلبات والتحديات التي أحاطت بالوطن ، فكيف لهذا الوطن المثخن بالجراح أن يصمد ويبقى؟
لكنني وجدت في كتاب الله ما أعاد إليّ اليقين والطمأنينة. في أقل من 24 ساعة ، طرقت مسمعي هذه الآية الكريمة من أواخر سورة هود : "فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم ، واتبع الذين ظلموا ما أُترفوا فيه وكانوا مجرمين" [هود:116].
في المرّة الأولى عندما أخذت إحدى المجلات التي توضع على مكتبي كل شهر دون أن أكلف نفسي عناءً في فتح مظروفها، ولا أدري ما الذي دفعني إليها ذلك الصباح!
كتب أحدهم عن ضمان البقاء وشروط النماء، ومما جاء في حديثه : ليس سهلاً أن يقوم المجتمع بلوازم ضمان البقاء ، ذلك أنه من دلالات البقاء استمرار الحياة ومواصلة البناء ، والحفاظ على المكتسبات والمنجزات ، وصيانتها وحسن استغلالها. فبقدر ما تكبر الحصيلة تكبر المسؤولية ، وبقدر ما يتسع الإنجاز تتسع دائرة الصيانة والرعاية والحماية. هذا هو كنه البقاء وحقيقة استمرار العطاء.
ثم أتى الكاتب بالآية شارحاً أن القرآن الكريم يربط بقوة بين البقية المتمكنة من البقاء وبين سلطانها على محاربة الفساد وعوامل التآكل والانهيار. سرّ البقية الباقية هو في بقائها على الحق من أجل الإصلاح والصلاح ، والتخلي عن مواصلة البقاء يجد أصله في اتباع الترف وينتهي بممارسة الإجرام! وفي كل ذلك عناصر إبادة محققة وفناء أكيد.
في مساء اليوم نفسه جلسنا في حلقة التلاوة الأسبوعية ، وتوقف شيخنا عند هذه الآية دون سواها، مركزاً على "أولو بقية " ، وختم بالدعاء أن يجعلنا الله من هذه البقية التي تنهي عن الفساد في الأرض. لم يفسر الشيخ إلا تلك الآية مع أننا قرأنا جزءاً كاملاً من القرآن.
وما تزال ترن في مسمعي الكلمات التي قرأتها صباحاً : "إن توفير النماء جزء من استمرار البقاء ...
كل مشروع خير ، صوت يصدح بالحق ، شاهد بالحق ، ناصر للحق . ولذا أرى أن ينكب عملنا على تشجيع أصوات الحق ، مهما علت وتعددت أصوات الباطل. فالتنمية حق ، والتربية حق ، والتواصل حق ، ومشاريع ومنجزات الخير قائمة بالحق خادمة للحق".
أما المرة الثالثة ، فكانت في المسجد الحرام. وقفت أصلي صلاة الفجر عند تلك المشربيات قبالة ميزاب الرحمة ، وارتفع صوت الإمام يتلو "فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ...الآية" ، ثم تأتي الآية التالية : "وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون".
سنّة ماضية في الخلق ، كلما تمسكوا بالصلاح والإصلاح ، ابتعدوا عن أسباب الهلاك. وعندما يدخل فيهم الفساد والإجرام تخلّوا عن دواعي البقاء والنماء.
وتمضي المقالة : "هناك منجزات أفنت فيها الأجيال الماضية والحاضرة عصارة جهدها وثرواتها ، ينبغي أن تبقى. وجامعات ومؤسسات ومعاهد ومدارس ، ينبغي أن يدوم أثرها ، ومقررات وبرامج ومناهج أثبتت فاعليتها ؛ ينبغي الحفاظ عليها. ومساجد ومراكز ، أسست لذكر الله ورفع كلمة الله والدعوة لدينه ينبغي أن تبقى وتستمر. لأن كل ذلك وغيره من منابر الحق وأصوات الخير ، إذا لم يحافظ عليها أهلها عطل فعلها وأزيل وجودها أو خضعت لتغيرات في جوهرها لتصبح شيئاً آخر على غير صلة بالحق".
إذا كثر الفساد في الأرض وانتشر الخبث في الناس، فإنه ينذر بعاقبة وخيمة...
سألت إحدى نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أو نهلك يا رسول الله وفينا الصالحون؟ قال: نعم. إذا كثر الخبث }، فالخبث إذا كثر في أمة من الأمم فإنه نذير بأن تهلك هذه الأمة كما ورد ذلك في القرآن؛ إما بخسف أو بمسخ أو بريح أو بعاصفة أو بفيضان أو بزلزال أو ببركان أو بطاعون أو بمرض أو بغير ذلك من جند الله التي لا يحصيها إلا رب العالمين.
إن أهل الخير الذين ينهون عما يقع في مجتمعاتهم من الشرور والمعاصي ، هم قلة قليلة، وفي بقاء هذا النوع الشريف منجاة للجميع من الفتنة ومن الهلاك العاجل.
قال صاحب التحرير والتنوير: المراد الإهلاك العاجل الحال بهم في غير وقت حلول أمثاله، دون الإهلاك على جميع الأمم، وهو فناء أمة وقيام أخرى في مدد معلومة حسب سنن معلومة.
وفي مقابل البقية من أهل الخير ، بقية أخرى؛ الذين ظلموا ، اتبعوا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين؛ مجرمين على أنفسهم، ومجتمعهم، وأسرهم، وديارهم التي كانوا يسكنون فيها. فإن العذاب لما حلَّ، حَلَّ بالجميع: قُلِبت الديار، وتضرر المجتمع من تلك المعاصي التي كانوا يفعلونها.
هذا نداء لكل فرد من أولي بقيتنا أن يجدّد العزم، ويصحَح النية، فإن السفر طويل والزاد قليل:
لا أستزيدك فيما فيك من كرمٍ * أنا الذي نام إن نبّهت يقظانا!
من صحيفه الراي العام