الانتخابات السودانية بين سيناريو (الحلم) وسيناريو (لم يكسب أحد)
د.عثمان ابوزيد
نشر مركز فكر هولندي دراسة عن سيناريوهات الانتخابات السودانية ، متوقعاً حصول واحد من أربعة سيناريوهات: سيناريو (الحلم) ، سيناريو (التأجيل) ، سيناريو (وضع علامة في المربع ثم العودة إلى العمل) ، وسيناريو (لم يكسب أحد).
وما يخرج عن مراكز الفكر الغربية يجب أن يؤخذ بجدية ، فهي مراكز قد تفرغت لصياغة المقترحات والخيارات لممارسي السلطة الذين لا وقت لديهم للتفكير على المدى البعيد ، وهي من ناحية أخرى وجه للدبلوماسية الثقافية التي باتت عنصراً جوهرياً في الدول الغربية والتي يزداد اعتمادها على خزانات الأفكار هذه من أجل بسط نفوذها في العالم.
وأكثر ما يلفت النظر في مخرجات مراكز الأفكار هذه أنها مبنية على التقارير الميدانية وآراء الدبلوماسيين والخبراء المقيمين داخل الدول موضوع الدراسة ، ممن يتوفرون على الكثير من المعلومات والخلفيات.
وقد يُعذر هؤلاء الخبراء الأجانب أحياناً عندما يطيش سهمهم ويقصر فهمهم لبعض الخصوصيات في الضمير الوطني التي تقلب بعض تصوراتهم رأساً على عقب و»عقباً على رأس»!
تقول هذه الدراسة إن المراقبين والمحللين تيقنوا أن اتهاماً من المحكمة الجنائية الدولية لرأس الدولة في السودان من شأنه أن يضعف الرئيس ، ولكن لم يظهر أدنى مؤشر لذلك ، بل العكس ، ما حدث هو أن المؤتمر الوطني استطاع أن يستثمر هذا الاتهام لكسب التأييد والدعم الشعبي. وجاء خطابه العام مقبولاً ومؤثراً عندما قيل بأن المحكمة الجنائية أداة في يد المآرب والمصالح الغربية.
تنقل الدراسة عن مواطنة شاركت في استطلاعات الرأي حول الانتخابات القادمة قولها : «لست مهتمة بالسياسة ، ولم أكن أذهب للتصويت في الانتخابات ، أما في هذه المرّة مع المحكمة الجنائية فإن الأمر مختلف ، سوف أذهب لإعطاء صوتي للبشير. إن رئيسي في حاجة إلى صوتي».
في السيناريوهات الأربعة المشار إليها ، لم يعد سيناريو تأجيل الانتخابات معتبراً بعد أن دخلت العملية الانتخابية طور الحملات الدعائية ، ولكن ما أبدته الدراسة من تركيز على هذا السيناريو ربما أظهر ما كانت تخفيه الأيام السابقة أن بعض الأحزاب عملت بكل طاقتها لتأجيل الاستحقاق الانتخابي أو عرقلته. ويقرأ هذا مع ملاحظات أخرى تبديها الدراسة بأن معظم الأحزاب ومن بينها الحركة الشعبية تدخل هذه الانتخابات بكثير من التردد وعدم الحماسة ، لإحساسها أن المؤتمر الوطني قد عمل على تحضير الملعب منذ وقت مبكر بشكل يضمن فوزه.
إن المراقبين والمحللين يتفقون غالباً على تعددية الانتخابات القادمة في السودان وأنها انتخابات مراقََبة على نطاق واسع ، مع التسليم بأنها لن تفضي إلى نتيجة يستحوذ فيها الحزب الفائز على كل شيء ، بل هناك فرصة لتقسيم الكيكة.
ومع ذلك فإنهم يتوقعون أن تنظيم الانتخابات لن يكون مهمة سهلة ، وقد تكتنفها جملة من المصاعب ، أقلها وجود كثير من الناخبين الذين يصوّتون لأول مرّة في حياتهم ، بل إنها أول مرّة يمسكون فيها بقلم!
ويرى هؤلاء المراقبون أن الممسكين بزمام السلطة لن يعملوا على التغيير الديمقراطي من تلقاء أنفسهم ، وقد تردد المؤتمر الوطني كثيراً في الأخذ بما يدفع إلى الإصلاح السياسي ، وافتقدت الأحزاب عموماً الأفكار الكبيرة المتجددة ، ناهيك عن ظهورها على المسرح بكثير من مظاهر الإعياء وعدم الحيوية.
إن المحافظة على الوضع الراهن ستكون مكسباً كبيراً للحركة الشعبية ، في ظل التوتر الماثل لديها في جناحيها السياسي والعسكري ، إذ تتهددها مؤشرات قوية للانشطار. ولا يتوقع أن يكون لها تأييد في الشمال مما يعرضها لفقدان نسبتها المقررة في اتفاقية السلام. لقد فشلت الحركة الشعبية في معركة العقول والقلوب على نحو يعرض وضعها في الشمال ، ويلزمها ذلك أن تعوّض في الجنوب. وتبدو مشاركة الحركة الشعبية في انتخابات رئاسة الجمهورية وكأن فيها تضحية بواحد من قيادات الحركة ذوي الوزن الثقيل!
إن انتهت الانتخابات بتثبيت الوضع الراهن ، فسوف تستمر المشاركة بين الحزبين مع تعديل طفيف في الخريطة السياسية ، يدخل بموجبه أعضاء من الأحزاب الأخرى في البرلمان وفي الحكومة.
وبأخذ هذه المعطيات المهمة في الاعتبار ، يمكن الموازنة بين السيناريوهات الثلاثة المتبقية ؛ فمن ناحية يبدو سيناريو (الحلم) بعيد المنال ، وهو النجاح الكامل للانتخابات بما يقود إلى تبادل سلمي للسلطة ، وانتفاء الأساليب الفاسدة والكذب وعدم استخدام المال السياسي لاستمالة الناخبين. وسوف يكون الأقرب إلى الاحتمال هو السيناريو الذي تصفه الدراسة بـ (وضع علامة في المربع ثم العودة إلى العمل).
في المجتمعات ذات الدخل المنخفض ، يتخذ الناخبون قرارهم على ما يتلقونه من إغراءات عاجلة أو وعود بتقسيم المواقع والخدمات ، ويتأثر الناخب أكثر ما يتأثر بولائه الحزبي والاثني ، ويستبعد كثيراً أن ينبني القرار على الرأي الصحيح والاقتناع بالبرامج.
والانتخابات في ديمقراطيات المناطق الخطرة ، تؤدي بالضرورة إلى العنف. وفي ظل إعلاء التوقعات بالفوز لدى الأحزاب المشاركة ، يمكن لأية نتائج مخيبة أن تقود إلى موجة من الاحتجاجات ، ولن يصعب على السلطات أن تتعامل معها لإعادة الأمور إلى نصابها.
ولكن أيّ شعور لدى الحركة الشعبية أن الانتخابات لم تكن نزيهة أو أنها لم تنل نصيبها المفروض ، فإنها ستنضم إلى المحتجين ويحصل انفراط للنظام ، وعندئذ لن يكسب أحد.
هذا باختصار شديد ما جاء في دراسة لافتة للأنظار ، سيما أنها اقتصرت على آراء سياسيين من جنوب السودان ، إلى جانب استطلاع دبلوماسيين وعاملين في المنظمات الدولية ، فضلاً عن استراتيجيين في وزارة الدفاع الهولندية.
وكل الأحوال لا بد من قراءة مثل هذه الدراسات بغير قليل من الحذر ، مع القدرة على الفرز بين «الصحيح» و»المزيف» لما يحدث من توظيف قصدي لها في حرب الأفكار وفي خدمة المصالح الخاصة لتجار الخوف.
في عام 1997 قدمت مؤسسة أمريكية اسمها «مشروع للقرن الأمريكي الجديد» رؤيتها لضرب العراق من أجل تفكيك أسلحة مزعومة للدمار الشامل ، وبعد ذلك بست سنوات تبنت إدارة بوش الفكرة واجتاحت العراق.
الراي العام
د.عثمان ابوزيد
نشر مركز فكر هولندي دراسة عن سيناريوهات الانتخابات السودانية ، متوقعاً حصول واحد من أربعة سيناريوهات: سيناريو (الحلم) ، سيناريو (التأجيل) ، سيناريو (وضع علامة في المربع ثم العودة إلى العمل) ، وسيناريو (لم يكسب أحد).
وما يخرج عن مراكز الفكر الغربية يجب أن يؤخذ بجدية ، فهي مراكز قد تفرغت لصياغة المقترحات والخيارات لممارسي السلطة الذين لا وقت لديهم للتفكير على المدى البعيد ، وهي من ناحية أخرى وجه للدبلوماسية الثقافية التي باتت عنصراً جوهرياً في الدول الغربية والتي يزداد اعتمادها على خزانات الأفكار هذه من أجل بسط نفوذها في العالم.
وأكثر ما يلفت النظر في مخرجات مراكز الأفكار هذه أنها مبنية على التقارير الميدانية وآراء الدبلوماسيين والخبراء المقيمين داخل الدول موضوع الدراسة ، ممن يتوفرون على الكثير من المعلومات والخلفيات.
وقد يُعذر هؤلاء الخبراء الأجانب أحياناً عندما يطيش سهمهم ويقصر فهمهم لبعض الخصوصيات في الضمير الوطني التي تقلب بعض تصوراتهم رأساً على عقب و»عقباً على رأس»!
تقول هذه الدراسة إن المراقبين والمحللين تيقنوا أن اتهاماً من المحكمة الجنائية الدولية لرأس الدولة في السودان من شأنه أن يضعف الرئيس ، ولكن لم يظهر أدنى مؤشر لذلك ، بل العكس ، ما حدث هو أن المؤتمر الوطني استطاع أن يستثمر هذا الاتهام لكسب التأييد والدعم الشعبي. وجاء خطابه العام مقبولاً ومؤثراً عندما قيل بأن المحكمة الجنائية أداة في يد المآرب والمصالح الغربية.
تنقل الدراسة عن مواطنة شاركت في استطلاعات الرأي حول الانتخابات القادمة قولها : «لست مهتمة بالسياسة ، ولم أكن أذهب للتصويت في الانتخابات ، أما في هذه المرّة مع المحكمة الجنائية فإن الأمر مختلف ، سوف أذهب لإعطاء صوتي للبشير. إن رئيسي في حاجة إلى صوتي».
في السيناريوهات الأربعة المشار إليها ، لم يعد سيناريو تأجيل الانتخابات معتبراً بعد أن دخلت العملية الانتخابية طور الحملات الدعائية ، ولكن ما أبدته الدراسة من تركيز على هذا السيناريو ربما أظهر ما كانت تخفيه الأيام السابقة أن بعض الأحزاب عملت بكل طاقتها لتأجيل الاستحقاق الانتخابي أو عرقلته. ويقرأ هذا مع ملاحظات أخرى تبديها الدراسة بأن معظم الأحزاب ومن بينها الحركة الشعبية تدخل هذه الانتخابات بكثير من التردد وعدم الحماسة ، لإحساسها أن المؤتمر الوطني قد عمل على تحضير الملعب منذ وقت مبكر بشكل يضمن فوزه.
إن المراقبين والمحللين يتفقون غالباً على تعددية الانتخابات القادمة في السودان وأنها انتخابات مراقََبة على نطاق واسع ، مع التسليم بأنها لن تفضي إلى نتيجة يستحوذ فيها الحزب الفائز على كل شيء ، بل هناك فرصة لتقسيم الكيكة.
ومع ذلك فإنهم يتوقعون أن تنظيم الانتخابات لن يكون مهمة سهلة ، وقد تكتنفها جملة من المصاعب ، أقلها وجود كثير من الناخبين الذين يصوّتون لأول مرّة في حياتهم ، بل إنها أول مرّة يمسكون فيها بقلم!
ويرى هؤلاء المراقبون أن الممسكين بزمام السلطة لن يعملوا على التغيير الديمقراطي من تلقاء أنفسهم ، وقد تردد المؤتمر الوطني كثيراً في الأخذ بما يدفع إلى الإصلاح السياسي ، وافتقدت الأحزاب عموماً الأفكار الكبيرة المتجددة ، ناهيك عن ظهورها على المسرح بكثير من مظاهر الإعياء وعدم الحيوية.
إن المحافظة على الوضع الراهن ستكون مكسباً كبيراً للحركة الشعبية ، في ظل التوتر الماثل لديها في جناحيها السياسي والعسكري ، إذ تتهددها مؤشرات قوية للانشطار. ولا يتوقع أن يكون لها تأييد في الشمال مما يعرضها لفقدان نسبتها المقررة في اتفاقية السلام. لقد فشلت الحركة الشعبية في معركة العقول والقلوب على نحو يعرض وضعها في الشمال ، ويلزمها ذلك أن تعوّض في الجنوب. وتبدو مشاركة الحركة الشعبية في انتخابات رئاسة الجمهورية وكأن فيها تضحية بواحد من قيادات الحركة ذوي الوزن الثقيل!
إن انتهت الانتخابات بتثبيت الوضع الراهن ، فسوف تستمر المشاركة بين الحزبين مع تعديل طفيف في الخريطة السياسية ، يدخل بموجبه أعضاء من الأحزاب الأخرى في البرلمان وفي الحكومة.
وبأخذ هذه المعطيات المهمة في الاعتبار ، يمكن الموازنة بين السيناريوهات الثلاثة المتبقية ؛ فمن ناحية يبدو سيناريو (الحلم) بعيد المنال ، وهو النجاح الكامل للانتخابات بما يقود إلى تبادل سلمي للسلطة ، وانتفاء الأساليب الفاسدة والكذب وعدم استخدام المال السياسي لاستمالة الناخبين. وسوف يكون الأقرب إلى الاحتمال هو السيناريو الذي تصفه الدراسة بـ (وضع علامة في المربع ثم العودة إلى العمل).
في المجتمعات ذات الدخل المنخفض ، يتخذ الناخبون قرارهم على ما يتلقونه من إغراءات عاجلة أو وعود بتقسيم المواقع والخدمات ، ويتأثر الناخب أكثر ما يتأثر بولائه الحزبي والاثني ، ويستبعد كثيراً أن ينبني القرار على الرأي الصحيح والاقتناع بالبرامج.
والانتخابات في ديمقراطيات المناطق الخطرة ، تؤدي بالضرورة إلى العنف. وفي ظل إعلاء التوقعات بالفوز لدى الأحزاب المشاركة ، يمكن لأية نتائج مخيبة أن تقود إلى موجة من الاحتجاجات ، ولن يصعب على السلطات أن تتعامل معها لإعادة الأمور إلى نصابها.
ولكن أيّ شعور لدى الحركة الشعبية أن الانتخابات لم تكن نزيهة أو أنها لم تنل نصيبها المفروض ، فإنها ستنضم إلى المحتجين ويحصل انفراط للنظام ، وعندئذ لن يكسب أحد.
هذا باختصار شديد ما جاء في دراسة لافتة للأنظار ، سيما أنها اقتصرت على آراء سياسيين من جنوب السودان ، إلى جانب استطلاع دبلوماسيين وعاملين في المنظمات الدولية ، فضلاً عن استراتيجيين في وزارة الدفاع الهولندية.
وكل الأحوال لا بد من قراءة مثل هذه الدراسات بغير قليل من الحذر ، مع القدرة على الفرز بين «الصحيح» و»المزيف» لما يحدث من توظيف قصدي لها في حرب الأفكار وفي خدمة المصالح الخاصة لتجار الخوف.
في عام 1997 قدمت مؤسسة أمريكية اسمها «مشروع للقرن الأمريكي الجديد» رؤيتها لضرب العراق من أجل تفكيك أسلحة مزعومة للدمار الشامل ، وبعد ذلك بست سنوات تبنت إدارة بوش الفكرة واجتاحت العراق.
الراي العام